-->
U3F1ZWV6ZTIxMjgyMDQ4NDQwX0FjdGl2YXRpb24yNDEwOTYyNDc2MTM=
recent
أخبار ساخنة

الكنيسة اتحرقت والقسيس مات!

مصري فقير، ملابسه رثة، بالكاد تستره، يستيقظ من نومه ليجد حجرته غارقة في الصرف الصحى لا يعترض.
يعبر فوق أجساد أولاده المكومة على الأرض في إجازة طويلة، لأن مدرستهم مهدمة بلا جدران وبلا كراسي وبلا مدرسين ولا يعترض.
يذهب ليشتري العيش فيجد فيه مسامير وصراصير لا يعترض.
ترتفع درجة حرارة طفله السابع فيذهب للوحدة الصحية حيث لا دواء ولا طبيب فقط ممرضة حامل تحشو الكرنب أيضاً لا يعترض.
لكن هناك كنيسة ستبنى في قريته هنا انتفخت أوداجه واحمرت عيناه وخرج في مظاهرة ليعترض.
هكذا علق الإعلامى خالد منتصر على التناقضات المبهمة والانفصام الأيديولوجي الذي يعاني منه أغلب المجتمع المصري فهو لا يعترض على الأزمة الاقتصادية، ولا على مشكلة البطالة، ولا على الطعام المسرطن، ولا حتى على مبادئ المجتمع الرأسمالية التي لا تضيف شيئاً للمجتمع سوى أن تزيد الغني ثراء والفقير فقراً، ولكن رغم كل هذه المساوئ التي يتغاضى عنها عن طيب خاطر، يرفض المواطن المصري أن يكون إنساناً متحضراً.. يرفض مبدأ قبول الآخر بل ويعتبره غزواً دينياً في بعض الأحيان.
أن تُبنَى كنيسة في الحي فهذا نصر مبين للمسيحيين وغزو ديني للعالم الإسلامى فينزل هذا المعدم الذي لا يملك قوت أطفاله ليمنع بكل ما تبقى له من قوة أن تقام الكنيسة أو أن يقيم أحد المواطنين المسيحيين شعائر الصلاة في منزله!!
لا أفهم لماذا كل هذا الاعتراض على قبول الآخر؟.. ما الذي سيضير المجتمع من بناء كنيسة أو معبد؟

لماذا نهتم كل هذا الاهتمام بوضع ديانة الشخص في البطاقة؟
أليس الإيمان هو علاقة شخصية بين الفرد وربه؟ أليست كل الديانات من المفترض بها أن تحض على التسامح وقبول الجميع؟
إن مجتمعنا مريض بداء التطرف الديني.. بدءاً من الأطفال التي تجري في الشوارع وهي تردد العبارة الشهيرة "الكنيسة اتحرقت والقسيس مات قوم يا محمد فرق الشربات!" حتى السلطات التي ألقت القبض على أطفال في عمر الزهور كل تهمتهم أنهم انتقدوا الأعمال الإرهابية لداعش بحجة أنهم يزدرون الدين الإسلامي.
هل انتقاد الإرهاب والعنف على أساس الدين أصبح ازدراء للدين؟ إذا كان هذا ازدراء للدين فماذا عن خطب المساجد الأسبوعية التي تنعت من يدينون بغير دينهم بأحفاد القردة والخنازير وتصب جام اللعنات على أطفالهم ونسائهم وأموالهم؟ ألا يندرج هذا تحت بند ازدراء الديانة اليهودية والمسيحية؟
إن ما أقوله ليس مجرد جمل وصفية أو افتراءات على هامش أحداث عرضية ولكنها حقائق تنبع من مواطن غاضب حزين على ما وصل إليه مجتمعه من التدني الأخلاقي والعنصرية البغيضة.. هذا المجتمع الذي كان من المفترض به أن يكون نبراساً للحضارة والانفتاح على الآخر كما كان هكذا منذ آلاف السنين.. هذا المجتمع الذي بين عشية وضحاها أصبح يقرن بين دين الشخص وصفاته ومؤهلاته فعبارات مثل "هو مسيحى لكن كويس".. "هي مسيحية لكن طيبة" هي أكبر دليل على القناعات الفكرية الراسخة في عقل قطاع عريض من المواطنين المسلمين أن المسيحي من المفترض به أن يكون عكس ذلك!!
إن ما أحسد نفسي عليه في بعض الأحيان هو أنني لم اختبر الاضطهاد الديني بشكل شخصي في مصر، حيث قدر لي الله دائماً أن أتقابل مع أشخاص متفتحين يعاملون الغير بمبدأ إنساني غير قائم على تحيز ديني أو تعصب أعمى، وهذا ما جعلني أكتب هذه السطور لعلها تطرق قلب فئة من الأشخاص عماهم التطرف الديني عن رؤية الآخر وتصوروا أن الله اختارهم دون سواهم، وأن باقي الديانات الأخرى مجرد كومبارس خلقهم الله فقط وقوداً للنار في الآخرة.
كان لي أستاذ يُدرسني اللغة العربية يدعى الشيخ حسن، كان هذا الرجل الفاضل بجوار مهنته كأستاذ للغة العربية يعمل أيضاً إماماً لأحد المساجد بالمنطقة. لم أتعلَّم اللغة العربية وأصول الإعراب إلا بفضل هذا الأستاذ.. ما زلت أتذكر صوته وكيف كان يلقي النكات باللغة العربية الفصحى وجملة (الله يفتح عليكي يا بنتي) التي طالما أثنى علي بها كلما قمت بإعراب جملة صعبة أو حفظ أبيات شعرية جديدة.. كنت المسيحية الوحيدة بالفصل ولم يشعرني هذا الرجل الفاضل في لحظة أنني مختلفة عن الباقين، بل إن أردتم صدق القول كان يميزني بالأكثر ويعطيني كتباً للشعر والنثر والأدب العربي.. عندما قام الشيخ حسن بعملية في قدمه طلب مني أن أشعل له شمعة أمام صورة السيدة العذراء، وأن أدعو له بالشفاء؛ لأنه يثق أن الله يسمع صلاة عباده دون محاباة لأحد على حساب أحد.. لا أعلم إذا كان الشيخ حسن حياً يرزق أم لا، ولكني دائماً أدعو له بالرحمة في الحالتين؛ لأنه أحد أهم الأسباب التي لولاها لما أصبحت على ما أنا عليه.
إن سبب المهاترات التي تحدث الآن ما بين مؤيد ومعارض لقانون بناء الكنائس هو غياب أمثال الشيخ حسن.. سبب ازدياد هؤلاء من يحاولون إدراج المسيحيين في قائمة النزلاء ودافعي الجزية هو أنهم كفروا بعبادة إله الشيخ حسن واكتفوا فقط بعبادة ذواتهم.. فعندما تصبح مغتاباً، قاتلاً، مضطهداً، سليط اللسان تأكد أنك تمجد ذاتك؛ لأن الله تبارك اسمه لا يُسَر بالظلم بل الشيطان!
لا أعلم كيف سيُصبِح الجيل الذي تم سجنه بسبب أنه سخر من داعش، ولا أعلم كيف سيُصبِح الجيل الذي رأى جدته تتعرى أمامه بلا شفقة ولا رحمة، ولا أعلم كيف سيُصبِح الجيل الذي شب على سب ولعن من لا يدين بدينه، ولكن سأكتفي بالدعاء للشيخ حسن الذي أراني النموذج الحضاري لإمام المسجد ولأستاذ اللغة العربية الجليل، والذي علمني ما لم ولن أنساه طيلة ما حييت، هذا الرجل الذي أراني بأفعاله ما يحث عليه دينه، هذا الرجل الذي لو اقتدى به المصريون لباتت بلادنا جنة من الأخلاقيات والفضائل.. إن الوحدة الوطنية ليست كاهناً يصافح شيخاً أمام شاشات التلفاز.. ولا يتوطد النسيج الواحد بالزيارات الرسمية والتصفيق والتهليل.. لن تعرف بلادنا معنى التحضر والمواطنة إلا عندما تقضي على وباء التطرف وتعترف بأن هناك خللاً في القيم الإنسانية وفهم مبادئ الدين.. لن تتقدم بلادنا ويعمها السلام الحقيقي إلا عندما تتغير قناعات المواطن وتُرَاقب خطب المساجد ويحاسب الجميع بالتساوي أمام القانون وتوضع قوانين رادعة لمعاقبة كل من تسول له نفسه أن يقتحم دور العبادة بحجة نصرة دينه؛ لأنه حاشا لله أن يكون سعيداً راضياً بالهدم والبغض والكراهية.
لعل سطوري القليلة نجحت في أن تشكل صرخة في وجه الظلم والتعصب، لعلها عبرت بجرأة عن الخلل المجتمعي.. لعلها تذكرنا بموقف السيد المسيح الذي مع كل محبته وتسامحه، والذي قيل عنه إنه لم يطفئ فتيلة مدخنة إلا أنه لم يسكت عن حقه، بل نظر لمن تعدى عليه بدون وجه حق وسأله: "إِنْ كُنْت قَدْ تَكَلَّمْت رَدِياً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ، وَإِنْ حَسَناً فَلِماذا تَضْرِبُنِي؟".
إن كنا نعيش في هذا البلد الذي يضمنا جميعاً تحت سمائه ونأكل جميعاً من خيرات أرضه ونموت لاسترداد شبر منه، فليس لأي أحد الحق فى أن يعاملني كمواطن درجة ثانية أو يساويني بالمهاجرين في بلاد الغرب.. فهذا بلدي وأصل أجدادي.. أنا مواطن مصري مسيحي لي نفس حقوقك وعليَّ فيه نفس واجباتك، ومن يطالب بتقنين أدوار العبادة المسيحية ودحض حق المسيحيين هو الذي لا يعرف معنى التعايش والمواطنة وقبول الآخر، وللحديث بقية.
الاسمبريد إلكترونيرسالة